فصل: د- الشورى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي (نسخة منقحة)



.ب- الطاعة والالتزام:

وأما الفرق الثاني بين الإمامة العامة والجماعات الخاصة ففي الطاعة فهي في الإمامة العامة مطلقة لا يقيدها إلا المعصية فقط، وهذه الطاعة ثابتة للإمام العام في عنق المسلمين حتى مع جوره وظلمه يدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» متفق عليه.
وكذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول للحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»، وفي رواية: «وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان». متفق عليه. فقوله رضي الله عنه: «وعلى أثره علينا» معناه أننا نطيع الإمام ولو آثر غيرنا علينا، وكذلك قوله: «وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا» أي لا يجوز الخروج على الإمام بالفسق الذي لا يبلغ حد الكفر وطاعته مع هذا الفسق أيضًا واجبة. ولا يعني هذا بالطبع عدم نصحه بل هو واجب كما قلت في صدر هذا البحث، بل جعل الرسول القيام للإمام الظالم الفاسق ونصحه أفضل الجهاد كما قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم من يقتله هذا الإمام الجائر عند نصحه من سادات الشهداء كما قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».
وهذه الطاعة المبينة آنفًا غير الطاعة الثابتة لأمير جماعة الدعوة أو أمير جماعة الغربة أو السفر فالطاعة في كل الجماعات السابقة طاعة عرفية مشروطة، وأعني بقولي عرفية أنها بحسب ما تتعارف عليه الجماعة وبحسب ما تشترطه، وبالطبع لا يلزم الطاعة مع الفسق والجور، فقد أوجب الرسول الطاعة للإمام العام مع فسقه وجوره للفساد الحاصل من عصيانه والخروج عليه، ولا يتأتى فساد من عصيان أمير جماعة السفر والغربة والدعوة كفساد الحاصل هناك. فالطاعة والالتزام في هذه الجماعات مشروط ببقائها في النظام الموضوع وشروطها المنصوص والمتعارف عليها.

.ج- الوحدة والتعدد:

وهناك اتفاق على أن ولاية أمور المسلمين يجب أن تكون بيد واحدة هي الخلافة أو الإمامة الكبرى، ولكن بعض المقررين للأمور الواقعة في عصور خلت من تاريخ الإسلام قالوا بجواز تعدد الإمامات العامة. ولا يخفى ما في قولهم من البعد والشطط.
وهذه الأقوال انطبعت أيضًا على العاملين في حقول جماعات الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فرأى البعض أن تعدد الجماعات غير جائز، واشتط البعض فزعم أن من انضم إلى جماعة ما هم المسلمون وحدهم وما عدا ذلك فليسوا بمسلمين، وكان من أسباب هذه الأقوال الظن الخاطئ بأن جماعة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هي الجماعة المسلمة فقط وأن أمير جماعة الدعوة يقوم مقام الإمام العام والخليفة، ولذلك أعطى مفارق جماعة الدعوة حكم مفارق بيعة الإمام العام، وليس هذا بسديد، بل مفارق جماعة الدعوة مخل بعهد وبيعة خاصة ولا تنطبق عليه أحاديث مفارق الإمامة العامة ومنها قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة الجاهلية» متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما حكم التعدد للجماعات الإسلامية فالحق أنه راجع لطبيعة الجماعات وأعمالها وظروف المجتمعات التي تعيش فيها.
فالمصلحة الشرعية تحتم أحيانًا التعدد في المجتمع الواحد وتحتم أحيانًا التوحد والاجتماع وتجيزه أحيانًا أخرى، ويحدد الحكم في هذا النظر الشرعي الصحيح المبني على دراسة وافية للنصوص الشرعية، وطبيعة المجتمعات، والدعوات القائمة والمهمات المنوطة بها وهذا كلام فيه إجمال كثير ولتفصيله مجال آخر إن شاء الله تعالى. والمهم في هذا الصدد بيان أن القول بحرمة تعدد جماعات الدعوة في المجتمع الواحد أو البلد الذي تحده حدود سياسية واحدة قول متعجل. وكذلك القول بالجواز مطلقًا تنقصه الرؤية الواضحة لأحوال الدعوات ومشاكلها.
حدثني الشيخ داود أحمد فيصل الداعية المسلم في نيويورك وصاحب جماعة الدعوة إلى الإسلام هناك قال: (في نيويورك وحدها أكثر من أربعين جماعة تدعو إلى الإسلام، ولكن كل جماعة تدعو إلى إسلام غير إسلام الجماعة الأخرى). فمن يقول بجواز التعدد إذا كان على هذا النحو من الفساد والبلبلة والصد عن سبيل الله.
ولكن إذا تعددت مصالح الأمة التي أهملها كثير من الحكام كبناء المساجد وتربية النشء على أساس الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع شبه الضالين، وتنقية عقائد المسلمين فقامت لكل مصلحة من هذه المصالح وواجب من هذه الواجبات جماعة تفرغ جهدها فيها فهل يقال هنا بحرمة التعدد؟ كلا إن التعدد هنا واجب حيث أنه يجب سد هذه الثغرات جميعًا، والقيام بهذه الواجبات جميعًا.
ولكن ما يحز في القلب أن يرى المسلم-في أيامنا هذه- أن همّ جماعات الدعوة إلى الله تبارك وتعالى-إلا من رحم الله منهم- قد انصرف إلى هدم بعضهم البعض، وأنهم ينفقون من أوقاتهم وأعمالهم في هذا الهدم أكثر مما ينفقون في البناء!

.د- الشورى:

أعتذر للقارئ من الإطالة في شرح الفروق السابقة وتعريف جماعة المسلمين وإمامهم والمهمات المنوطة به، وتعريف جماعات الدعوة وأمرائها والمهمات المنوطة بها وذلك حتى نستطيع أن نكون على وعي بالإطار الذي سننزل الشورى فيه. فنظام الشورى المنصوص عليه في القرآن والمعمول به في السنة وسيرة الخلفاء الراشدين هو النظام الواجب الإتباع في الإمامة، وأما جماعات الدعوة فهناك بعض الفروق كما سترى عند التمثيل والتطبيق إن شاء الله تعالى.

.مبدأ الشورى.. ومرونة التطبيق:

للشورى في الإسلام قاعدة من قواعد الحكم، ونظام صالح للجماعات وسيرة كريمة للأفراد، وإليك بيان لهذا الإجمال:

.الأدلة على أن الشريعة الإسلامية جاءت مقررة لمبدأ الشورى:

دل الكتاب، والسنة، وأقوال الخلفاء وسيرتهم، وأقوال السلف، وأقوال علماء العصر على أن الشريعة الإسلامية جاءت مقررة لمبدأ الشورى وإليك الأدلة على ذلك:

.أولًا: الكتاب:

قال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159).
نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد التي استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في الخروج إلى عدوهم أو البقاء في المدينة، فأشير عليه من جمهورهم وغالبيتهم بالخروج، وذلك من الذين لم يشهدوا بدرًا وكان فيهم تحرق إلى لقاء العدو. ولقد كان ما كان من مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقاء فوق الجبل وهزيمة المسلمين واستشهاد سبعين منهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عقب هذه الغزوة بالعفو عمن صدر منهم خطأ كالرماة والذين فروا، والذين تعجلوا الخروج ولم يأخذوا بالرأي الأحكم وهو البقاء في المدينة، وأمر أيضًا أن يستغفر لهم، وأن يستمر على مشاورته إياهم في مثل هذه الأمور، التي هي سياسة الحرب، ومكايد العدو.. ونزول الأمر بالشورى في مثل هذه الظروف يؤكد حتميتها ولزومها.
واعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ: {وشاورهم في الأمر} ليبين أن الشورى ليست في كل الأمور، وسيأتي لهذا الأمر تفصيل إن شاء الله تعالى في مجالات الشورى.
واعلم أيضًا أن عامة السلف والفقهاء قالوا بأن أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالشورى كان للوجوب وليس للندب أو الاستحباب، وخالف في ذلك الإمام الشافعي رحمه الله وقاس الأمر هنا على قوله صلى الله عليه وسلم: «البكر تستأذن» أي عند الزواج، قال الشافعي: لو أجبرها أبوها على الزواج جاز!! وقد رد هذا القول الفخر الرازي في تفسيره (5/83) بقوله: القياس في مواجهة النص باطل.
واعلم أخي أن المقيس عليه عند الشافعي في هذه المسألة باطل أيضًا لأن الصحيح أنه لا يجوز للأب أن يجبر ابنته على الزواج لأن هذا مخالف لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف.
ولكن بعض السلف-مع قولهم بالوجوب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم- نفوا أن يكون هذا الوجوب عن حاجة عند الرسول للمشاورة، بل قالوا: لقد أغناه الله عن المشورة بما أوحى له وهداه ووفقه ولكن أمره بذلك ليقتدي به من بعده الأئمة والخلفاء، وليكون هذا سياسة دائمة في الأمة إذا رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو كان مأمورًا بذلك ومطبقًا له.
ولكن الفخر الرازي نفى هذا القول بقوله: (والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال سبحانه: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عقلًا وذكاءً وهذا يدل على أنه كان مأمورًا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة) (المرجع السابق).
وخلاصة هذا الكلام أن الشورى لازمة للاجتهاد ولا تقدح في شخص المستشير بل هي دلالة على رجاحة العقل، وأضيف هنا إلى كلام الفخر الرازي رحمه الله أن الشورى تكون أحيانًا في أمور دنيوية صرفة، كالخبرة بشؤون القتال، ومنازل الحرب ومكايد العدو، وأصلح الناس للإمارة، ولا يقول أحد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بشؤون الدنيا ولذلك فهو مستغن عن المشورة فيها وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» فليس نقصًا في حق الرسول صلوات الله عليه وسلامه، ولا طعنًا في منزلته أن يكون أمر الله في الآية السالفة الوجوب، وذلك لتتجمع له الخبرة التامة، والعلم الشامل لتصريف شؤون الأمة الإسلامية الناشئة وليكون هذا سنة للخلفاء بعده ليلتزموا هذا المنهج الكريم.
2- قال تعالى في مدح المؤمنين الذين ادخر لهم الخير: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى:38).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: {وأمرهم شورى بينهم} أي لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها.
وإذا أردت أن تعلم لزوم الأمر هنا فاعلم أنه جاء بالجملة الاسمية التي تفيد الاستمرار والثبوت وأنه جاء بعد الاستجابة لأمر الله وهي الإسلام ثم الصلاة وهي عماد الإسلام وجاء خلف الشورى الزكاة وإنفاق المال فوضع الشورى بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أكبر الأدلة على لزومها.